السرد الروائي
صفحة 1 من اصل 1
السرد الروائي
بإمكاننا أن نعد الرواية التاريخية، كجنس عربي حديث، على المكتبة العربية.
هنالك مثلا، محاولات لهذا الجنس الأدبي الروائي، نجدها عند الكاتب الروائي نجيب محفوظ في منتصف القرن العشرين، كما نجدها بشكل متطور عند الكاتب جورجي زيدان. لكن هذا الموضوع ليس من اهتمامنا الآن.
أما ما نقصد به في هذه الدراسة، هو الرواية التاريخية التي تتخذ لها مسرح الجغرافية العربية الإسلامية، أو موروثها الحضاري، كنقطة انطلاق للسرد الروائي. ونخص بالتحديد تلك التي تفد علينا وما تزال، من خلال مصادر لغوية أجنبية، سواء كانت مكتوبة باللغة الفرنسية، الإنجليزية أو الإسبانية أو غيرها.
وهنا أيضا نجد أنفسنا أمام فئتين من الكتاب: كتابا أصولهم عربية أو إسلامية، يمارسون كتابة الرواية التاريخية انطلاقا من اللغات الأجنبية، وآخرون أصولهم أجنبية، يمارسون هذا الجنس نفسه من الرواية التاريخية.
وبإمكاننا أن نسوق بعض الأمثلة بهذا الخصوص: (طبيب طليطلة) ل(مات كوهن)، (سارة القرطبية) ل(رولاند كوس)، (أسد طليطلة) ل(كلود أندريه بيرت)، (سلطانة ألمرية) ل(رجين كوليو)، (صلاح الدين فارس الإسلام) ل(جيرالد ميسادي)، (صلاح الدين) ل(لاري.ت.كريست).
كما نجد في المقابل، (ليون الأفريقي) ل (نجيب معلوف)، ثلاثية غرناطة (لرضوى عاشور) ، (صلاح الدين) ل(فرح أنطون)، (زفرة المغربي) ل(سلمان رشدي) و (في ظلال الرمانة) ل(طارق علي). ومن كل هذا العرض المختصر، ننتقي رواية واحدة كنموذج لدراستنا، ألا وهي رواية" في ظلال الرمانة" لكاتبها طارق علي. والكاتب هو روائي وصحفي باكستاني الأصل، بريطاني الجنسية.
ولد في (لاهور)سنة 1943م، وانخرط في الحزب الشيوعي التروتسكي سنة 1968م، وظل عضوا فيه لغاية الثمانينات، حين انفسخ الحزب، فاعتزل هذا الجانب النضالي، واكتفى بمساندته لحزب(طوني بين)، ذا الاتجاه اليساري المتطرف.
وللرجل مواقفه السياسية، ومواقفه الأدبية وتراثه النضالي، بل و حتى الصحفي. ونحن في هذه المقاربة لا يعنينا من كل هذا، لا الحكم على عقيدته الماركسية، ولا على مواقفه السياسية، وإنما الذي يهمنا منه في هذه الأثناء، هو الكاتب الروائي، وبالخصوص، روايته الأولى التي صدرت له باللغة الإنجليزية ونقلت إلى الفرنسية تحت عنوان(في ظلال الرمانة).
ولقد قام بنقلها إلى اللغة العربية (د.إبراهيم السعافين). وتعد هذه الرواية لدى الكاتب، هي الأولى من سلسلة خماسية، نشرت منها لحد الآن: (كتاب صلاح الدين)، (امرأة حجرية) و(سلطان باليرمو). وصدر له مؤخرا، كتاب تحت عنوان (اصطدام الأصوليات).
إذن فبخصوص الرواية التي نحن بصدد دراستها (في ظلال الرمانة)، بإمكاننا أن ندرجها بدون أي تردد، في خانة الرواية التاريخية.
وملخص هذه الرواية باختصار، ذاك القدر التعيس الذي تسلط على أسرة (بنو هذيل).
وهذه الأسرة تنحدر تاريخيا من أصول أموية. وتواجده بشرق غرناطة الأندلسية يعود إلى عدة قرون.
والرواية تصور حالة هذه الأسرة قبل تشتيتها وطردها من الأندلس، التي عادت إلى حوزة النصارى سنة 1492م. والرواية ترسم الخطوط العريضة لهذه الأسرة لغاية انتفاضتها بعد 1499م وذلك بسبب الضغوط التي كان يمارسها عليها رئيس الأساقفة آنذاك الكاردينال (خيمينِس دي سيسنيرس).
وأحداث الرواية تتلخص في سلالة فريد الهديل، مؤسس القرية التي تحمل اسمه. وهذه الأسرة التي اخترع الكاتب تشكيلتها، ترمز فيما ترمز إليه، إلى الأعراق والديانات التي كانت متعايشة في الأندلس. فابن فريد، جد عمر، كان قد تزوج من خادمة مسيحية أنجبت له ولدا، اعتنق المسيحية فيما بعد. وكان قد عاشر أيضا يهودية أنجبت له ولدين:أحدهما ابن حسد الذي كان يعمل بستانيا لدى أسرة عمر. والثاني، كان قد التحق بالجيوش المسيحية المنتصرة، وأصبح قسا في صفوف ألأساقفة.
وابن زيدون المعلم، هو الآخر ينتمي إلى هذه الأسرة.
وكانت أمه تعمل كخادمة لدى آل الهذيل. وأسرة عمر بن فريد، التي تشغل من الرواية المحور الأساسي، كانت تتألف من الأب، الذي كان يسعى إلى اللجوء إلى الحوار مع المنتصرين، وابنه زهير، الذي كان قد صمم على الجهاد، لاعتقاده بأن عودة العبقرية الإسلامية ممكن. بينما رحلت ابنته هند صحبة زوجها إلى تونس، بحثا عن تراث الأجداد.
وباختصار، إذا كانت شجرة الرمان، ترمز إلى التعددية التي كانت تعيشها الأندلس، فاقتلاع جذورها، يصبح ضربا من التعصب وعدم قدرة الديانات، كما الثقافات على التعايش. فالكاتب وضع في هذا السياق، خطابا مبدئيا بنى عليه قاعدة روايته التاريخية.
ولا يخفى على القارئ، أن الكاتب يحاول قراءة صراعات الحاضر على ضوء تجارب الماضي، منبها إلى هذا الصراع الآني، الدائر بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي.
إلا أننا من خلال استقرائنا للنص الروائي الفرنسي، الذي اعتمدنا عليه كمرجع، تبين لنا بأن المحاولة الروائية، هي بالدرجة الأولى محاولة استفتان. أي أن المسألة التاريخية قد تحولت إلى حالة استعطاف رومانسي. فالقارئ، الذي ليس له أي إلمام بالمسألة الأندلسية، خصوصا القارئ الأوربي، الذي لا تعنيه هذه المسائل في شيء.
تصله هذه الرواية و يقرؤها في إطار القراءات العجائبية، المثيرة لرومانس الشرق المنقرض. ولسنا نبالغ والحالة هذه، من القول، بأن القراءة تتم في أجواء استشراقية، مفعمة بالسحر والبطولة والغراميات.
فهل الرواية تظل في هذا المضمار تاريخية، أم أنها تخرج عن سياقها التاريخي، لتنزلق إلى حدائق التشويق الرومانسي. (انظر بهذا الصدد،كتاب الإستشراق، لإدوارد سعيد). فلنتوقف قليلا قبل المتابعة، ولنقدم تعريفا أكاديميا لما نسميه وننعته، بالرواية التاريخية.
تعرف الكاتبة والأديبة (رولاند كوس) الرواية التاريخية في دفاترها البيداغوجية، طارحة السؤال التالي قائلة: "ما هي الرواية التاريخية؟"
وتجيب قائلة: "إن مفهوم "رواية" يعني وهم وتخيل واختراع وإبداع من قبل الكاتب، أما "التاريخ" فيعني أحداث ماضية، أي واقعا ماضيا.
والآن إذا ما نحن زوجنا المصطلحين، تصبح المعادلة لدينا، تخيل، يضاف إلى حدث ماض، أي لا معنى !
فالرواية التاريخية إذن، هي وهم وتخيل يتخذان من الماضي إطاره المرجعي، مع رغبة طموحة في المحايدة وإعادة البناء والتوضيح." وعلى هذا الضوء، تصبح رواية طارق علي، التي سنبين تشكيلاتها الدفينة، مطابقة لهذا التحديد الذي ذكرناه أعلاه.
فالرواية تتخذ من الإطار الماضوي الذي تؤرخ له بسنة 1499 م مرجعها، إلا أنها تفرغ فيه مادة روائية وهمية، لا تعكس حقيقة الوثيقة التاريخية، ولا تستنطقها،بل تحملها كلاما شاعريا رقيقا وتلبسها بأزياء غرامية وإباحية.فالرواية المشتملة على( 288 ص) لا تعتمد الوثيقة الرسمية كمرجع أساسي، حتى ولئن كانت مؤشراتها الحَدَثِيّة صحيحة نوعا ما.
والقراءة الخطابية الخفية التي يعرضها الكاتب عبر أبطاله، هي الأخرى، لا تعكس الواقع الحقيقي للحدث التاريخي.
فالسيد طارق علي يكرس معظم فصول الرواية [باستثناء الثلاثة فصول الأخيرة، التي لا تتجاوز ثلاثين صفحة] إلى تصوير قرطبة في قالب مصغر لأسرة الهذيل. أسرة أرستقراطية ميسورة، يعد رجالها من وجهاء أشراف قرطبة.
أسرة يتعاطى أفرادها للملذات والتفرغ للنزهات، لعب الشطرنج و الغراميات السرية بل حتى للعلاقات الجنسية المحرمة شرعا، كجماع الابن لوالدته.
ليس هذا فقط،فالمتتبع للرواية بأسلوبها المتداخل، والمتلاعب بالحواس والأحاسيس الرقيقة، لا يمكنه قط أن يتصور تلك الكارثة التاريخية الكبرى، التي حلت فعلا بهذه المملكة الغربية، كآخر معقل من معاقل المسلمين. فمسألة (الجلاء)، ليست سوى غطاءا تمويهيا لأكبر الجرائم في حق شعب، بل أمة بكاملها.
فالرواية تنزلق شيئا فشيئا، إلى عالم الفتن والغراميات والمؤامرات النسائية.
وهي من ناحية أخرى، تسلط الضوء على شخصية تتمثل في شخص (الزنديق) الذي يلعب دور الملحد المتمرد على عادات الإسلام و المسلمين.
بل لا يتوقف به الأمر بهذا الاستهتار والاستهزاء، بل يتجاوزه إلى عرض سورة (الكافرون) القرآنية قائلا بأن الله قد كان ساهيا حين أوحاها، لأنه لا معنى لها. وهو بهذا الخصوص أخرج السورة من سياقها التاريخي المؤكد على خصوصية التوحيد للرسالة الإسلامية، حيث أنزلت ردا على مشركي مكة الذين كانوا يطلبون من الرسول محمد (ص) بأن يشرك إلهه مع آلهتهم.
وقصد الكاتب بهذا، تمرير فكرته ضمنا، بأن الإسلام يرفض الحوار مع الديانات الأخرى، بينما العكس هو الصحيح. وفي هذا المناخ البغيض، ينهال الكاتب عبر أبطاله، باللوم على المسلمين محقرا شأنهم، ولم ينل في المقابل من شأن الكاثوليكية المتطرفة، التي ستكون من وراء أكبر جريمة للتطهير العرقي في التاريخ. ثم إن أبطاله المسلمين، يصورهم في صورة منافقين باستثناء ابن زهير، هذا الذي سيختم آخر فصول الرواية كبطل فضل التمرد على الاستسلام.
فالرواية من مبتداها إلى منتهاها، باستثناء حالة الخوف من المجهول، ومحرقة الكتب التي ارتكبتها الكنيسة في شخص (الكاردينال)، (خيمينس دسنسيروس)، كان كل همها منصبا على مصير هذا الأسرة الهذيلة و مصلحتها في اعتناق المسيحية، إذا هي رغبت في الحفاظ على مصالحها الخاصة أو الرحيل إلى ديار المسلمين.
ما يمكن أن نؤاخذ عليه الكاتب من جهتنا، هو تقليص المأساة الأندلسية، إلى مجرد مسألة أسرة أو قبيلة قلقة عن مصيرها، وهي مع ذلك غارقة في تعاطي الملذات والمحرمات. فرواية كهذه، بإعادتها للعرض المأسوي، لأمة الأندلس في حلة روائية رومانسية، تقوم بإفراغ الحدث الأصلي من التساؤل التاريخي الذي ما زال متعلقا به، والذي ما زال متسائلا عن كيف كان بالإمكان ارتكاب جريمة كهذه.
نستنتج إذن، بأن الإنشاء وإعادة التأليف أو الكتابة الروائية على الكتابة التاريخية، هو نوع من أنواع محو آثار هذه الأخيرة.
استبدالها و تقديمها في شكل حكاية، قد تكون محزنة، إلا أنها مشفية لجراحات الماضي، بالإنسانية السطحية المتسامحة ولكن على حساب من؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في القسم الثاني من هذه الدراسة، الذي سيتناول عرض الوثائق التاريخية خارج الإطار الروائي.
لقد تم في هذه الرواية،مساواة الجلاد بالضحية، وتحميل الضحية مسؤولية مصيرها نوعا ما، في حين ظل الجاني بلا أدنى محاكمة تاريخية.
ومن هنا نفهم الجائزة التي نالتها هذه الرواية، من قبل رئيس الأساقفة ل (سان كليمنت).
ونحن نعلم بأن إيزابيلا الملكة الكاثوليكية، كانت موضع ترشيح، في سنة 1992م، تخليدا لذكرى انتصارها على غرناطة، بأن تمنح درجة القديسة إيزابيلا.
ولم يتم تمرير هذا المشروع لضغوطات سياسية.
والآن سنترك هذا السرد الروائي، لأنه بالفعل، يحق للكاتب وهو حر في توهماته وخياله، أن يخلق أشخاصه حسب المقاييس التي يرتئيها لها، طالما أن المسألة، مسألة خيال وسرد عاطفي، وليست مسألة توثيق.
قلنا بأننا سنغادر هذا الفضاء، لننتقل إلى ميدان الوثيقة التاريخية، حتى يتهيأ لنا بعد هذا العرض، أن نجري المقارنة بين النصين، تاركين للقارئ أن يستنتج بنفسه،الفوارق التي تفصل بينهما، وأوجه الشبه التي تجمع بينهما.
وفي هذا السياق التاريخي الحقيقي، ليس ثمة للرواية أية سلطة روائية، لأنه في هذا الحالة الثانية،وحده السرد الوثائقي الذي يدلي بوثائقه، يؤسس هذه المشروعية السردية.
لقد بدأت المحنة الأندلسية فعلا، بعد سقوط غرناطة في 21 محرم، سنة 897 هجرية، الموافقة لسنة 1492م.
فعلى سبيل التذكير، كانت مملكة الأندلس الإسلامية، بكل الأعراق البشرية والدينية الأخرى التي تتألف منها، تواجه من جهة الغرب المسيحي، حملة صليبية بقيادة البابا، كانت تشارك فيها جيوش كل الممالك الغربية بلا استثناء.
ونحن نميز بهذا الصدد بين حملتين صليبيتين متميزتين:
-1- الحملة الصليبية الخارجية:
وهي التي وجهت إلى بيت المقدس في القرن 11 عشر،و التي منيت بالفشل والهزيمة في القرن 13 عشر، ولئن كانت من ناحية أخرى، قد عادت على الغرب الذي كان يعيش عصور الانحطاط، بفوائد حضارية كبرى، بعد احتكاكه بالحضارة العربية الإسلامية، التي كانت في أوجها تسود العالم آنذاك.
-2- الحملة الصليبية الداخلية:
وهي التي كانت تدور رحاها، داخل الممالك المسيحية، والتي لم تكن معلنة رسميا، أي تدور في الخفاء نوعا ما.
ولقد انطلقت من كنيسة روما برآسة البابا،مع بداية القرن 11 عشر ميلادي إلى غاية مستهل القرن 19 عشر، أي سنة 1808م.
وكانت تستهدف في أول الأمر، كل الأقليات الدينية المنشقة عن الكنيسة، للتحول مع مرور السنين، إلى حرب علنية على كل من الأقلية اليهودية والمسلمين. وفي هذا المناخ الصليبي،استطاعت ملكة (قشتالة) إيزابيلا (1451-1504م) بعد زواجها من ولي عهد (أراغون) (فرديناند الثاني)، توحيد مملكتيهما، وتوجيه الضربة القاضية للمملكة الأندلسية بالجنوب.
ففي سنة 1479م، توحدت المملكتين وراحتا في حصار متواصل لمملكة غرناطة، انطلاقا من سنة 1481م، لغاية سقوطها.
ولقد استطاعت أثناء هذا الزحف الصليبي، الذي كان يضم بين صفوفه، جيوشا من مختلف الممالك المسيحية، احتلال كل من المدن التالية: مدينة (مالقة)سنة 1487م،مدينة (ألْمَرِيّة) سنة 1489م، ثم أخيرا (غرناطة) سنة 1492م. وبعد تسليم المدينة من قبل الملك أبو عبد الله علي بن حسن النصري، ضمت مباشرة إلى ملكية (قشتالة).
وفي سنة 1496م، منح البابا (إسكندر السادس) لكل من فرديناند و إيزابيلا لقب، (الملكان الكاثوليكيان).
ومن بعد وفاة إيزابيلا، ورثت ابنتها (جان أو خوانا) (1504-1555م) التي كانت تلقب بالمجنونة، مملكة قشتالة، في حين ورث (شارل الخامس) (1519-1555م) عرش (أراغون) الذي ضم إليه عرش قشتالة فيما بعد، بسبب قصور الملكة (خوانا) لأسباب صحية.
وهذه الأخيرة كانت من جهتها، قد أصدرت مرسوما في حق (الموريسكيين) بوضع هلال أزرق، بحجم نصف برتقالة، على قبعاتهم كيما يتميزوا عن باقي المواطنين.
وحين تمت معاهدة تسليم المملكة من قبل الملك أبو عبد الله،خرج هذا الأخير متوجها إلى المنفى تاركا وراءه مصير المسلمين، في معاهدة بينه و الملكين الكاثوليكيين، تشتمل على 67 بندا.
وهذه البنود هي مجموعة شروط معاهدة التسليم، التي كانت تنص في أساسها، على تأمين المسلمين على دينهم، أموالهم، ملكياتهم، أبنائهم و حرياتهم. وليس من المستغرب أن شروط هذه المعادة قد اغتصبت واخترقت بنودها، ولم يمر على نص عهودها وتوقيعها، سوى سبعة سنين. وهذا لا يدهشنا بتاتا، فالتاريخ الصليبي حافل بمثل هذه الممارسات من قبل ملوكه و ساسته.
وإذا كان بعض المؤرخين المسيحيين المتعصبين، يفرون من المسؤولية التاريخية، بإلقاء اللوم على المسلمين باعتبارهم كانوا السبب بانتفاضاتهم على المملكة، فإنهم يسكتون في هذه الأثناء، عن العوامل التي كانت من وراء هذه الانتفاضات، الشيء الذي سنبينه و نفصله بالتوضيح.
فهذا التبرير(لهذا الوعي الشقي) حسب تعبير الكاتب عبد الكبير الخطيبي، ليس سوى تبريرا مجانيا، لتمرير أكبر جريمة تطهير عرقي في تاريخ البشرية المتأخر.
فالمسلمون الذين كانوا سادة البلاد، لما يعادل ثمانية قرون، لم يخترعوا آليات التعذيب والترهيب ويتفننوا في موديلاتها، لممارسة التطهير العرقي على الأقليات العرقية الأخرى. ولو كانوا قد قاموا بمثل هذه الممارسات الدنيئة، أيام كانت لهم العزة والسيادة العسكرية، لما بقي بشبه جزيرة إيبريا ولو مسيحيي واحد. فشرف الإسلام أكبر من أن يتورط في مذابح جماعية، كتلك التي حصلت مؤخرا في كل من البوسنة والشيشان وكارثة غزة.
فالأساس الذي كانت قد بنيت عليه دولة الأندلس الإسلامية، كان مؤسسا، على وحدة التعايش العرقي والحرية الدينية.
وهذا الموروث الإنساني، لم يكن ليليق بأرباب الكنيسة الكاثوليكية، الذين كانت وجهة نظرهم تنحصر في المؤسسة الكاثوليكية لا غير.
وهكذا حبكت سرا خيوط مؤامرة ثلاثية، بين الملكة إيزابيلا، مرشدها الديني الجديد، الخاص بها و الحافظ لأسرارها، الكاردينال (خيمينس دي سيسنيروس) وبابا روما.
والكاردينال(خيمينيس) كان قد تقلد في هذه الأثناء منصب رئاسة محكمة التفتيش الدينية بغرناطة، محل رئيس القساوسة طالافيرا، الذي كان يعاب عليه أنه كان يفرض على المسلمين اعتناق المسيحية بطرق سلمية، وأنه لم يستخدم ما فيه من القوة والرعب من أجل عملية تبشيرية كهذه.
وهذه المحكمة الدينية، سنشير إليها من الآن فصاعدا، في هذه الدراسة، باسم محكمة التطهير العرقي، لأنها كانت كذلك. لأن وظيفة هذه المحاكم التي أنشأت في المملكة كانت وظيفتها متابعة، ملاحقة ومحاكمة كل من الأقلية اليهودية والمسلمين ثم (المورسكيين) فيما بعد. وباختصار كل من لا يدين بالمسيحية وكل من اعتنقها حديثا، للشك في صحة وصدق إيمانه.
ونحن حين نقول التطهير العرقي، نقصد في الوقت نفسه، التصفية الجسدية، الثقافية والخلقية للآخر، الذي لا يخضع لمؤسسة الكنيسة.
ومحاكم التفتيش العرقية هذه، كانت موجودة في قشتالة وطليطلة، وذلك قبل سقوط غرناطة.
وترجع الزعامة الإرهابية في هذا الميدان لأكابر القساوسة (طوماس طركيمادا) (1420-1498م) الذي عينه (البابا سيكسْت الرابع)خصيصا لهذا المنصب، في كل من (قشتالة) و (أراغون) و (كطالونيا) ابتداءًا من سنة 1482م. ولقد خلف هذا الأخير من ورائه، من الجرائم في حق الأبرياء، ما يخجل حتى التاريخ نفسه من ذكرها.
بقلم فؤاد اليزيد السني
كاتب مغربي
هنالك مثلا، محاولات لهذا الجنس الأدبي الروائي، نجدها عند الكاتب الروائي نجيب محفوظ في منتصف القرن العشرين، كما نجدها بشكل متطور عند الكاتب جورجي زيدان. لكن هذا الموضوع ليس من اهتمامنا الآن.
أما ما نقصد به في هذه الدراسة، هو الرواية التاريخية التي تتخذ لها مسرح الجغرافية العربية الإسلامية، أو موروثها الحضاري، كنقطة انطلاق للسرد الروائي. ونخص بالتحديد تلك التي تفد علينا وما تزال، من خلال مصادر لغوية أجنبية، سواء كانت مكتوبة باللغة الفرنسية، الإنجليزية أو الإسبانية أو غيرها.
وهنا أيضا نجد أنفسنا أمام فئتين من الكتاب: كتابا أصولهم عربية أو إسلامية، يمارسون كتابة الرواية التاريخية انطلاقا من اللغات الأجنبية، وآخرون أصولهم أجنبية، يمارسون هذا الجنس نفسه من الرواية التاريخية.
وبإمكاننا أن نسوق بعض الأمثلة بهذا الخصوص: (طبيب طليطلة) ل(مات كوهن)، (سارة القرطبية) ل(رولاند كوس)، (أسد طليطلة) ل(كلود أندريه بيرت)، (سلطانة ألمرية) ل(رجين كوليو)، (صلاح الدين فارس الإسلام) ل(جيرالد ميسادي)، (صلاح الدين) ل(لاري.ت.كريست).
كما نجد في المقابل، (ليون الأفريقي) ل (نجيب معلوف)، ثلاثية غرناطة (لرضوى عاشور) ، (صلاح الدين) ل(فرح أنطون)، (زفرة المغربي) ل(سلمان رشدي) و (في ظلال الرمانة) ل(طارق علي). ومن كل هذا العرض المختصر، ننتقي رواية واحدة كنموذج لدراستنا، ألا وهي رواية" في ظلال الرمانة" لكاتبها طارق علي. والكاتب هو روائي وصحفي باكستاني الأصل، بريطاني الجنسية.
ولد في (لاهور)سنة 1943م، وانخرط في الحزب الشيوعي التروتسكي سنة 1968م، وظل عضوا فيه لغاية الثمانينات، حين انفسخ الحزب، فاعتزل هذا الجانب النضالي، واكتفى بمساندته لحزب(طوني بين)، ذا الاتجاه اليساري المتطرف.
وللرجل مواقفه السياسية، ومواقفه الأدبية وتراثه النضالي، بل و حتى الصحفي. ونحن في هذه المقاربة لا يعنينا من كل هذا، لا الحكم على عقيدته الماركسية، ولا على مواقفه السياسية، وإنما الذي يهمنا منه في هذه الأثناء، هو الكاتب الروائي، وبالخصوص، روايته الأولى التي صدرت له باللغة الإنجليزية ونقلت إلى الفرنسية تحت عنوان(في ظلال الرمانة).
ولقد قام بنقلها إلى اللغة العربية (د.إبراهيم السعافين). وتعد هذه الرواية لدى الكاتب، هي الأولى من سلسلة خماسية، نشرت منها لحد الآن: (كتاب صلاح الدين)، (امرأة حجرية) و(سلطان باليرمو). وصدر له مؤخرا، كتاب تحت عنوان (اصطدام الأصوليات).
إذن فبخصوص الرواية التي نحن بصدد دراستها (في ظلال الرمانة)، بإمكاننا أن ندرجها بدون أي تردد، في خانة الرواية التاريخية.
وملخص هذه الرواية باختصار، ذاك القدر التعيس الذي تسلط على أسرة (بنو هذيل).
وهذه الأسرة تنحدر تاريخيا من أصول أموية. وتواجده بشرق غرناطة الأندلسية يعود إلى عدة قرون.
والرواية تصور حالة هذه الأسرة قبل تشتيتها وطردها من الأندلس، التي عادت إلى حوزة النصارى سنة 1492م. والرواية ترسم الخطوط العريضة لهذه الأسرة لغاية انتفاضتها بعد 1499م وذلك بسبب الضغوط التي كان يمارسها عليها رئيس الأساقفة آنذاك الكاردينال (خيمينِس دي سيسنيرس).
وأحداث الرواية تتلخص في سلالة فريد الهديل، مؤسس القرية التي تحمل اسمه. وهذه الأسرة التي اخترع الكاتب تشكيلتها، ترمز فيما ترمز إليه، إلى الأعراق والديانات التي كانت متعايشة في الأندلس. فابن فريد، جد عمر، كان قد تزوج من خادمة مسيحية أنجبت له ولدا، اعتنق المسيحية فيما بعد. وكان قد عاشر أيضا يهودية أنجبت له ولدين:أحدهما ابن حسد الذي كان يعمل بستانيا لدى أسرة عمر. والثاني، كان قد التحق بالجيوش المسيحية المنتصرة، وأصبح قسا في صفوف ألأساقفة.
وابن زيدون المعلم، هو الآخر ينتمي إلى هذه الأسرة.
وكانت أمه تعمل كخادمة لدى آل الهذيل. وأسرة عمر بن فريد، التي تشغل من الرواية المحور الأساسي، كانت تتألف من الأب، الذي كان يسعى إلى اللجوء إلى الحوار مع المنتصرين، وابنه زهير، الذي كان قد صمم على الجهاد، لاعتقاده بأن عودة العبقرية الإسلامية ممكن. بينما رحلت ابنته هند صحبة زوجها إلى تونس، بحثا عن تراث الأجداد.
وباختصار، إذا كانت شجرة الرمان، ترمز إلى التعددية التي كانت تعيشها الأندلس، فاقتلاع جذورها، يصبح ضربا من التعصب وعدم قدرة الديانات، كما الثقافات على التعايش. فالكاتب وضع في هذا السياق، خطابا مبدئيا بنى عليه قاعدة روايته التاريخية.
ولا يخفى على القارئ، أن الكاتب يحاول قراءة صراعات الحاضر على ضوء تجارب الماضي، منبها إلى هذا الصراع الآني، الدائر بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي.
إلا أننا من خلال استقرائنا للنص الروائي الفرنسي، الذي اعتمدنا عليه كمرجع، تبين لنا بأن المحاولة الروائية، هي بالدرجة الأولى محاولة استفتان. أي أن المسألة التاريخية قد تحولت إلى حالة استعطاف رومانسي. فالقارئ، الذي ليس له أي إلمام بالمسألة الأندلسية، خصوصا القارئ الأوربي، الذي لا تعنيه هذه المسائل في شيء.
تصله هذه الرواية و يقرؤها في إطار القراءات العجائبية، المثيرة لرومانس الشرق المنقرض. ولسنا نبالغ والحالة هذه، من القول، بأن القراءة تتم في أجواء استشراقية، مفعمة بالسحر والبطولة والغراميات.
فهل الرواية تظل في هذا المضمار تاريخية، أم أنها تخرج عن سياقها التاريخي، لتنزلق إلى حدائق التشويق الرومانسي. (انظر بهذا الصدد،كتاب الإستشراق، لإدوارد سعيد). فلنتوقف قليلا قبل المتابعة، ولنقدم تعريفا أكاديميا لما نسميه وننعته، بالرواية التاريخية.
تعرف الكاتبة والأديبة (رولاند كوس) الرواية التاريخية في دفاترها البيداغوجية، طارحة السؤال التالي قائلة: "ما هي الرواية التاريخية؟"
وتجيب قائلة: "إن مفهوم "رواية" يعني وهم وتخيل واختراع وإبداع من قبل الكاتب، أما "التاريخ" فيعني أحداث ماضية، أي واقعا ماضيا.
والآن إذا ما نحن زوجنا المصطلحين، تصبح المعادلة لدينا، تخيل، يضاف إلى حدث ماض، أي لا معنى !
فالرواية التاريخية إذن، هي وهم وتخيل يتخذان من الماضي إطاره المرجعي، مع رغبة طموحة في المحايدة وإعادة البناء والتوضيح." وعلى هذا الضوء، تصبح رواية طارق علي، التي سنبين تشكيلاتها الدفينة، مطابقة لهذا التحديد الذي ذكرناه أعلاه.
فالرواية تتخذ من الإطار الماضوي الذي تؤرخ له بسنة 1499 م مرجعها، إلا أنها تفرغ فيه مادة روائية وهمية، لا تعكس حقيقة الوثيقة التاريخية، ولا تستنطقها،بل تحملها كلاما شاعريا رقيقا وتلبسها بأزياء غرامية وإباحية.فالرواية المشتملة على( 288 ص) لا تعتمد الوثيقة الرسمية كمرجع أساسي، حتى ولئن كانت مؤشراتها الحَدَثِيّة صحيحة نوعا ما.
والقراءة الخطابية الخفية التي يعرضها الكاتب عبر أبطاله، هي الأخرى، لا تعكس الواقع الحقيقي للحدث التاريخي.
فالسيد طارق علي يكرس معظم فصول الرواية [باستثناء الثلاثة فصول الأخيرة، التي لا تتجاوز ثلاثين صفحة] إلى تصوير قرطبة في قالب مصغر لأسرة الهذيل. أسرة أرستقراطية ميسورة، يعد رجالها من وجهاء أشراف قرطبة.
أسرة يتعاطى أفرادها للملذات والتفرغ للنزهات، لعب الشطرنج و الغراميات السرية بل حتى للعلاقات الجنسية المحرمة شرعا، كجماع الابن لوالدته.
ليس هذا فقط،فالمتتبع للرواية بأسلوبها المتداخل، والمتلاعب بالحواس والأحاسيس الرقيقة، لا يمكنه قط أن يتصور تلك الكارثة التاريخية الكبرى، التي حلت فعلا بهذه المملكة الغربية، كآخر معقل من معاقل المسلمين. فمسألة (الجلاء)، ليست سوى غطاءا تمويهيا لأكبر الجرائم في حق شعب، بل أمة بكاملها.
فالرواية تنزلق شيئا فشيئا، إلى عالم الفتن والغراميات والمؤامرات النسائية.
وهي من ناحية أخرى، تسلط الضوء على شخصية تتمثل في شخص (الزنديق) الذي يلعب دور الملحد المتمرد على عادات الإسلام و المسلمين.
بل لا يتوقف به الأمر بهذا الاستهتار والاستهزاء، بل يتجاوزه إلى عرض سورة (الكافرون) القرآنية قائلا بأن الله قد كان ساهيا حين أوحاها، لأنه لا معنى لها. وهو بهذا الخصوص أخرج السورة من سياقها التاريخي المؤكد على خصوصية التوحيد للرسالة الإسلامية، حيث أنزلت ردا على مشركي مكة الذين كانوا يطلبون من الرسول محمد (ص) بأن يشرك إلهه مع آلهتهم.
وقصد الكاتب بهذا، تمرير فكرته ضمنا، بأن الإسلام يرفض الحوار مع الديانات الأخرى، بينما العكس هو الصحيح. وفي هذا المناخ البغيض، ينهال الكاتب عبر أبطاله، باللوم على المسلمين محقرا شأنهم، ولم ينل في المقابل من شأن الكاثوليكية المتطرفة، التي ستكون من وراء أكبر جريمة للتطهير العرقي في التاريخ. ثم إن أبطاله المسلمين، يصورهم في صورة منافقين باستثناء ابن زهير، هذا الذي سيختم آخر فصول الرواية كبطل فضل التمرد على الاستسلام.
فالرواية من مبتداها إلى منتهاها، باستثناء حالة الخوف من المجهول، ومحرقة الكتب التي ارتكبتها الكنيسة في شخص (الكاردينال)، (خيمينس دسنسيروس)، كان كل همها منصبا على مصير هذا الأسرة الهذيلة و مصلحتها في اعتناق المسيحية، إذا هي رغبت في الحفاظ على مصالحها الخاصة أو الرحيل إلى ديار المسلمين.
ما يمكن أن نؤاخذ عليه الكاتب من جهتنا، هو تقليص المأساة الأندلسية، إلى مجرد مسألة أسرة أو قبيلة قلقة عن مصيرها، وهي مع ذلك غارقة في تعاطي الملذات والمحرمات. فرواية كهذه، بإعادتها للعرض المأسوي، لأمة الأندلس في حلة روائية رومانسية، تقوم بإفراغ الحدث الأصلي من التساؤل التاريخي الذي ما زال متعلقا به، والذي ما زال متسائلا عن كيف كان بالإمكان ارتكاب جريمة كهذه.
نستنتج إذن، بأن الإنشاء وإعادة التأليف أو الكتابة الروائية على الكتابة التاريخية، هو نوع من أنواع محو آثار هذه الأخيرة.
استبدالها و تقديمها في شكل حكاية، قد تكون محزنة، إلا أنها مشفية لجراحات الماضي، بالإنسانية السطحية المتسامحة ولكن على حساب من؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في القسم الثاني من هذه الدراسة، الذي سيتناول عرض الوثائق التاريخية خارج الإطار الروائي.
لقد تم في هذه الرواية،مساواة الجلاد بالضحية، وتحميل الضحية مسؤولية مصيرها نوعا ما، في حين ظل الجاني بلا أدنى محاكمة تاريخية.
ومن هنا نفهم الجائزة التي نالتها هذه الرواية، من قبل رئيس الأساقفة ل (سان كليمنت).
ونحن نعلم بأن إيزابيلا الملكة الكاثوليكية، كانت موضع ترشيح، في سنة 1992م، تخليدا لذكرى انتصارها على غرناطة، بأن تمنح درجة القديسة إيزابيلا.
ولم يتم تمرير هذا المشروع لضغوطات سياسية.
والآن سنترك هذا السرد الروائي، لأنه بالفعل، يحق للكاتب وهو حر في توهماته وخياله، أن يخلق أشخاصه حسب المقاييس التي يرتئيها لها، طالما أن المسألة، مسألة خيال وسرد عاطفي، وليست مسألة توثيق.
قلنا بأننا سنغادر هذا الفضاء، لننتقل إلى ميدان الوثيقة التاريخية، حتى يتهيأ لنا بعد هذا العرض، أن نجري المقارنة بين النصين، تاركين للقارئ أن يستنتج بنفسه،الفوارق التي تفصل بينهما، وأوجه الشبه التي تجمع بينهما.
وفي هذا السياق التاريخي الحقيقي، ليس ثمة للرواية أية سلطة روائية، لأنه في هذا الحالة الثانية،وحده السرد الوثائقي الذي يدلي بوثائقه، يؤسس هذه المشروعية السردية.
لقد بدأت المحنة الأندلسية فعلا، بعد سقوط غرناطة في 21 محرم، سنة 897 هجرية، الموافقة لسنة 1492م.
فعلى سبيل التذكير، كانت مملكة الأندلس الإسلامية، بكل الأعراق البشرية والدينية الأخرى التي تتألف منها، تواجه من جهة الغرب المسيحي، حملة صليبية بقيادة البابا، كانت تشارك فيها جيوش كل الممالك الغربية بلا استثناء.
ونحن نميز بهذا الصدد بين حملتين صليبيتين متميزتين:
-1- الحملة الصليبية الخارجية:
وهي التي وجهت إلى بيت المقدس في القرن 11 عشر،و التي منيت بالفشل والهزيمة في القرن 13 عشر، ولئن كانت من ناحية أخرى، قد عادت على الغرب الذي كان يعيش عصور الانحطاط، بفوائد حضارية كبرى، بعد احتكاكه بالحضارة العربية الإسلامية، التي كانت في أوجها تسود العالم آنذاك.
-2- الحملة الصليبية الداخلية:
وهي التي كانت تدور رحاها، داخل الممالك المسيحية، والتي لم تكن معلنة رسميا، أي تدور في الخفاء نوعا ما.
ولقد انطلقت من كنيسة روما برآسة البابا،مع بداية القرن 11 عشر ميلادي إلى غاية مستهل القرن 19 عشر، أي سنة 1808م.
وكانت تستهدف في أول الأمر، كل الأقليات الدينية المنشقة عن الكنيسة، للتحول مع مرور السنين، إلى حرب علنية على كل من الأقلية اليهودية والمسلمين. وفي هذا المناخ الصليبي،استطاعت ملكة (قشتالة) إيزابيلا (1451-1504م) بعد زواجها من ولي عهد (أراغون) (فرديناند الثاني)، توحيد مملكتيهما، وتوجيه الضربة القاضية للمملكة الأندلسية بالجنوب.
ففي سنة 1479م، توحدت المملكتين وراحتا في حصار متواصل لمملكة غرناطة، انطلاقا من سنة 1481م، لغاية سقوطها.
ولقد استطاعت أثناء هذا الزحف الصليبي، الذي كان يضم بين صفوفه، جيوشا من مختلف الممالك المسيحية، احتلال كل من المدن التالية: مدينة (مالقة)سنة 1487م،مدينة (ألْمَرِيّة) سنة 1489م، ثم أخيرا (غرناطة) سنة 1492م. وبعد تسليم المدينة من قبل الملك أبو عبد الله علي بن حسن النصري، ضمت مباشرة إلى ملكية (قشتالة).
وفي سنة 1496م، منح البابا (إسكندر السادس) لكل من فرديناند و إيزابيلا لقب، (الملكان الكاثوليكيان).
ومن بعد وفاة إيزابيلا، ورثت ابنتها (جان أو خوانا) (1504-1555م) التي كانت تلقب بالمجنونة، مملكة قشتالة، في حين ورث (شارل الخامس) (1519-1555م) عرش (أراغون) الذي ضم إليه عرش قشتالة فيما بعد، بسبب قصور الملكة (خوانا) لأسباب صحية.
وهذه الأخيرة كانت من جهتها، قد أصدرت مرسوما في حق (الموريسكيين) بوضع هلال أزرق، بحجم نصف برتقالة، على قبعاتهم كيما يتميزوا عن باقي المواطنين.
وحين تمت معاهدة تسليم المملكة من قبل الملك أبو عبد الله،خرج هذا الأخير متوجها إلى المنفى تاركا وراءه مصير المسلمين، في معاهدة بينه و الملكين الكاثوليكيين، تشتمل على 67 بندا.
وهذه البنود هي مجموعة شروط معاهدة التسليم، التي كانت تنص في أساسها، على تأمين المسلمين على دينهم، أموالهم، ملكياتهم، أبنائهم و حرياتهم. وليس من المستغرب أن شروط هذه المعادة قد اغتصبت واخترقت بنودها، ولم يمر على نص عهودها وتوقيعها، سوى سبعة سنين. وهذا لا يدهشنا بتاتا، فالتاريخ الصليبي حافل بمثل هذه الممارسات من قبل ملوكه و ساسته.
وإذا كان بعض المؤرخين المسيحيين المتعصبين، يفرون من المسؤولية التاريخية، بإلقاء اللوم على المسلمين باعتبارهم كانوا السبب بانتفاضاتهم على المملكة، فإنهم يسكتون في هذه الأثناء، عن العوامل التي كانت من وراء هذه الانتفاضات، الشيء الذي سنبينه و نفصله بالتوضيح.
فهذا التبرير(لهذا الوعي الشقي) حسب تعبير الكاتب عبد الكبير الخطيبي، ليس سوى تبريرا مجانيا، لتمرير أكبر جريمة تطهير عرقي في تاريخ البشرية المتأخر.
فالمسلمون الذين كانوا سادة البلاد، لما يعادل ثمانية قرون، لم يخترعوا آليات التعذيب والترهيب ويتفننوا في موديلاتها، لممارسة التطهير العرقي على الأقليات العرقية الأخرى. ولو كانوا قد قاموا بمثل هذه الممارسات الدنيئة، أيام كانت لهم العزة والسيادة العسكرية، لما بقي بشبه جزيرة إيبريا ولو مسيحيي واحد. فشرف الإسلام أكبر من أن يتورط في مذابح جماعية، كتلك التي حصلت مؤخرا في كل من البوسنة والشيشان وكارثة غزة.
فالأساس الذي كانت قد بنيت عليه دولة الأندلس الإسلامية، كان مؤسسا، على وحدة التعايش العرقي والحرية الدينية.
وهذا الموروث الإنساني، لم يكن ليليق بأرباب الكنيسة الكاثوليكية، الذين كانت وجهة نظرهم تنحصر في المؤسسة الكاثوليكية لا غير.
وهكذا حبكت سرا خيوط مؤامرة ثلاثية، بين الملكة إيزابيلا، مرشدها الديني الجديد، الخاص بها و الحافظ لأسرارها، الكاردينال (خيمينس دي سيسنيروس) وبابا روما.
والكاردينال(خيمينيس) كان قد تقلد في هذه الأثناء منصب رئاسة محكمة التفتيش الدينية بغرناطة، محل رئيس القساوسة طالافيرا، الذي كان يعاب عليه أنه كان يفرض على المسلمين اعتناق المسيحية بطرق سلمية، وأنه لم يستخدم ما فيه من القوة والرعب من أجل عملية تبشيرية كهذه.
وهذه المحكمة الدينية، سنشير إليها من الآن فصاعدا، في هذه الدراسة، باسم محكمة التطهير العرقي، لأنها كانت كذلك. لأن وظيفة هذه المحاكم التي أنشأت في المملكة كانت وظيفتها متابعة، ملاحقة ومحاكمة كل من الأقلية اليهودية والمسلمين ثم (المورسكيين) فيما بعد. وباختصار كل من لا يدين بالمسيحية وكل من اعتنقها حديثا، للشك في صحة وصدق إيمانه.
ونحن حين نقول التطهير العرقي، نقصد في الوقت نفسه، التصفية الجسدية، الثقافية والخلقية للآخر، الذي لا يخضع لمؤسسة الكنيسة.
ومحاكم التفتيش العرقية هذه، كانت موجودة في قشتالة وطليطلة، وذلك قبل سقوط غرناطة.
وترجع الزعامة الإرهابية في هذا الميدان لأكابر القساوسة (طوماس طركيمادا) (1420-1498م) الذي عينه (البابا سيكسْت الرابع)خصيصا لهذا المنصب، في كل من (قشتالة) و (أراغون) و (كطالونيا) ابتداءًا من سنة 1482م. ولقد خلف هذا الأخير من ورائه، من الجرائم في حق الأبرياء، ما يخجل حتى التاريخ نفسه من ذكرها.
بقلم فؤاد اليزيد السني
كاتب مغربي
بنت پاكستان- مدير الموقع
- عدد الرسائل : 19524
العمر : 38
العمل/الترفيه : طالبة علم/ زوجة / أم
تاريخ التسجيل : 02/01/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى